التوكل على الله و أثره في حياة المسلم

أحمد بن محمد الأنصاري

التوكل على الله و أثره في حياة المسلم

الخطبة الأولى :

الحمد لله مدبر الملك و الملكوت ,المتفرد بالعزة و الجبروت, رفع السماء بغير عماد و قدر فيها أرزاق العباد , لا إله غيره و لا رب لنا سواه ,و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , لا معقب لحكمه و لا مبدل لكلماته و هو سريه الحساب , و أشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين , و ملة ً للمؤمنين و حجة ً على المعاندين لينذر من كان حياً و يحق القول على الكافرين. صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه و من اتبع سنته و اهتدى بهداه .. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له و توجهوا إليه و أخلصوا له العبادة يغفر لكم ذنوبكم و يجركم من عذابٍ أليم, و اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.أيها المؤمنون بالله و لقائه و محمدٍ صلى الله عليه و آله و سلم و رسالته , إن إصلاح القلوب شأنً عظيم و غايةٌ شامله,لاتصلح الأحوال و لاتستقيم الأمور إلا بصلاح أعمال القلوب لقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما جاء في الحديث المتفق على صحته ( إن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب و صلاح القلب لا يكون إلا بصلاح أعماله . و أعمال القلوب كثيرةٌ و متعددة من أهمها و أعظمها و أشرفها التوكل على الله وحده , فهو منزلةٌ من منازل الدين و مقام من مقامات الموقنين .وحقيقة التوكل هو صدق اعتمد القلب على الله في استجلاب المصالح و دفع المضار من أمور الدنيا و الأخره و تحقيق الإيمان بأنه لا يعطي و لا يمنع و لا يضر و لا ينفع سواه جل جلاله .و التوكل على الله أجمع أنواع العباده و أعلى مقامات التوحيد و أعظمها و أجلها و ما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحه و الرضا العميق و اليقين الثابت و سكون القلب و طمأنينة النفس .و لقد جاء الأمر بالتوكل على الله في كتاب الله في أوجه مختلفة و سيلقات متعددة و مواضع مؤكده بل جعله الله تعالى شرطاً لصحة الإسلام و قوة الإيمان فقال جل ذكره ( إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) و قال سبحانه( و على الله توكلوا إن كنتم مؤمنين)قال أهل العلم فدل ذلك على انتفاء الإسلام و الإيمان بانتفائه . و حياة المرسلين مع أقوامهم مثل للتوكل, و جهاد المؤمنين المذكور في القرآن مثل للتوكل على الله, و قد أخبر الله عن أنبيائه و رسله بقوله جل و علا ( و ما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سلبنا )و قال الله لنبينا محمدٍ صلى الله عليه و آله و سلم ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين )( و توكل على الله و كفى بالله و كيلا )(و توكل على الحي الذي لايموت )( و توكل على العزيز الرحيم ) و قال عن أصحاب نبيه صلى الله عليه و آله و سلم ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل ) و قال عن أوليائه( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا و إليك المصير )و قال في صفات المؤمنين (و على ربهم يتوكلون )و قال في جزاء المتوكلين( و من يتوكل على الله فهو حسبه) و قال سبحانه (و إذا عزمت فتوكل على الله ) . و أعظم بمقامٍ موسومٍ بمحبة الله تعالى صاحبه و مضمونٍكفاية الله ملابسه ,فمن كان الله حسبه و كافيه و محبه و مراعيه فقد فاز الفوز العظيم و كفى بالله وكيلا. فطالب المحبة و طالب الكفاية من غيره هو التارك للتوكل .و بعد أيها الإخوه فإن التوكل عبادة ٌقوليه عظيمه أخطأ في فهما طوائف من العباد و الزهاد و جماعةٌ من عامة الناس الذين ذهبوا في هذه المسألة إلى طرفي نقيض الإفراط و التفريط, و أخطو التوسط الذي هو سمة هذه الأمة المباركة . و حاجة المسلم السالك لطريق الله إلى التوكل هى حاجةٌ شديده خاصة في طلب الرزق, الذي شغل قلوب الناس و عقولهم , و أورث كثيراً منهم تعب البدن و هم النفس و أرق الليل و عناء النهار ,و ربما قبل لأحدهم أن يذل نفسه و يحني ظهره و يبذل كرامته من أجل لقمة العيش التى يحسب أنها في يد مخلوقٍ مثله ,إن شاء أعطاه و إن شاء منعه ,و قد يصل به الأمر إلى تعاطي الكسب الحرام من السحت و أخذ الرشوة و أكل الرباو أكل المال الباطل خوفاً على نفسه و أولاده من مستقبلٍ لايدرى ماالله قاضٍ فيه.و ثمت موطنٌ من مواطن العمل لايكون على وجه و لايتحقق غايته إلا حينما يكون لبه و عموده إنه موطن الصبر و التحمل ,فقد يتعرض الناس في دنياهم لمخاوف مزعجه ,و اعتداءاتٍ متتابعة,و قوة أعداءٍ متلاحقة ,فيعتريهم الخوف و القلق ,و يلاحقهم الإضطراب و الجزع ,و الحق عليهم أن يثبتوا على الروع و يثقوا بربهم و يأملوا فيه و يلجأوا إليه و يتوكلوا عليه , عليهم أن يثبتوا بالتوكل على الله الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم و يرفع عنهم ذل حياتهم و يعينهم على مواجهة الأخطار من الكفار بعزمٍ و ثقةٍ و اطمئنان. و لاتكاد تغشي مجلساً من مجالس بعض الناس إلا و تسمع فيه ما يدل على نقصان التوكل على الله بالنفوس و انصهارها مع الأسباب و اعتمادها على الأسباب قلباً و قالبا , أكثر من إعتماد التوكل على الله الذي هو الأصل و الأساس,و غاب عنهم أن الله جل جلاله هو مسبب الأسباب و هو مالك الأسباب و الآمر بالأسباب .

فيا أيها المؤمنون بالله و لقائه إن هذا الأمر لعظيمٌ جدا و هذه العبادة الإيمانية ما جاءت في القرآن الكريم في ألفاظها البلاغية و مواردها العربية , إلا مقصورة على الله وحده جل جلاله و هو القائل في محكم التنزيل ( و على الله فتوكلوا_\( و )(و على ربهم يتوكلون )( فتوكل على الله ) (و على الله فليتوكل المؤمنون )( و ما لنا أن نتوكل على الله ) هذا هو التوكل في حقيقته و أثره و جزاءه و صفات أهله , لكنه ما كان تواكلا ًو لا إتكاليةً و ما كان ضياعاً و لا إهمالا . إن تحقيق التوكل لا ينافي السعى و الأخذ بالأسباب فالسعي في الأرض و تعاطي الأسباب طاعةٌ لله و التوكل على الله بالغيب إيمانٌ بالله ,إن المتوكلون في كتاب الله هم العاملون كما قال الله جل و علا (نعم أجر العاملينالذي صبروا و على ربهم يتوكلون ) .

التوكل على الله مضيٌ في العمل و تشجٌ في السعى , و إقدام و ثقة ٌبأن الله نصير العاملين , التوكل على الله إعتمادٌ على الله و أخذٌ بالأسباب المشروعه . و قد أمر الله عباده بالأخذ بالأسباب في كتابه العزيز في قوله جل ذكره(و أعدوا لهم من ما استطعتم من قوةٍ ) و في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثباتٍ أو انفروا جميعا)و في قوله جل و علا لموسى عليه السلام ( فاسري بعادي ليلا إنكم متبعون و اترك رهواً إنهم جندٌ مغرقون ) .

و إمام المتوكلين نبينا محمدٍ صلى الله عليه و آله و سلم

و سيرته جليةٌ محفوظة , أخذٌ بالأسباب و توكلٌ على الله فقد اختفى في الغار عن الكفار ,و ظاهر بين درعين يوم أحد و لم يحظر الصف قط عمياناً كما يفعله من لا علم عند و لامعرفه ,و استأجر دليلاً مشركاً على دين قومه يدله على طريق الهجرة ,و كان يدخر لأهله قوت سنه و هو سيد المتوكلين و كان إذا سافر في جهادٍ أو حجٍ أو عمرةٍ حمل الزاد معه ,و ما أخل بشيءٍ من الأسباب , فالتوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب , التوكل على الله لا ينافي رعاية الأسباب التي أقام الله عليها نظام هذا الكون و أجرى عليها سننه و مضت بها أقداره و حكم بها شرعه ,فليس التوكل بإهمال العواقب و اطراح التحفظ ,بل ذلك عند العلماء و العقلاء عجزٌ و تفريط يستحق صاحبه التوبيخ و الاستهجان و اسمعوا إلى قول نبيكم صلى الله عليه وآله و سلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ( لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لما رزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا و تروح بطانا أخرجه أحمد و ابن ماجه و الترمذي و قال حديث حسنٌ صحيح .

إن التوكل على الله شعورٌ و يقين بعظمة الله و ربوبيته و هيمنته على الحياة و الوجود و الأفلاك و الأكوان فكل ذلك محكومٌ بحول الله و قوته جل جلاله .

و التوكل على الله إيمانٌ بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعه في عالم الشهاده تسليمٌ لله و أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوباتٍ وواجبات يقول بعض السلف من طعن في الحركة و السعى فقد طعن في السنه , ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان , فالتوكل على الله حال النبي صلى الله عليه و آله و سلم , و الكسب من سنته , فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته و المسلم المتوكل على ربه في كل أحواله يخرج من بيته متوجهاً إلى عمله و مهنته , يضع قدمه عند الخروج و هو يقول بسم الله توكلت على الله و لا حول و لا قوة إلا بالله أخرجه أحمد و ابن ماجه و النسائي و الترمذي قال حديثٌ حسنٌ صحيح . و قد كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن (يقول اللهم لك أسلمت و بك آمن و عليك توكلت و إليك أنبت ) الحديث متفقٌ على صحته . و في الحديث الآخر من قال (بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له حين إذ كفيت ووقيت و هديت تنحى عنه الشيطان ) أخرجه ابن ماجه و أبو داوود و الترمذي و قال حديثٌ حسنٌ صحيح .فاتقوا الله أيها المسلمون, و انهجوا في توكلكم و اعتمادكم نهج رسل الله الكرام الذين كانوا يواجهون الشدائدو الخطوب بصدق الإعتماد على ريهم . و خالص التوكل عليه .اللهم ارزقنا صدق التوكل و خالص الإعتماد عليك و اجعل بواطننا خيراً من ظواهرنا أقول هذا القول و استغفر الله لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه و توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية :

الحمد لله وحده لاشريك له في ملكه و لامانع له في أمره و لامقاوم له في عزه,هو المتفرد بالإمر كله سبحانه و بحمده جل ثناءه و تقدست أسماؤه و أشهد أن لا إله إلاالله و حده لاشريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه و إخوانه و سلم تسليماً كثيرا ..أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى و اعلموا أن أول بواعث التوكل و مصادره توحيد الله و إفراده بالعباده , فالرب جل جلاله هو المعبود سبحانه له الأسماء الحسنى و الصفات العلى و اعلموا رحمكم الله أن للتوكل على الله آثارٌ عظيمه منها السكينة و الإطمئنان , و القوة و العزه و الرضا و لكل أثرٍ من هذه الآثار شواهد و أخبار من نصوص الكتاب و السنه , و اعلم رعاك الله أن الأسباب المعينة على تحقيق التوكل على الله كثيرة منها معرفة الله تعالى حق المعرفه بأسمائه و صفاته العلى ,و تعظيم الرب جل و علا و الثقة بالله تعالى و معرفة الإنسان بعجزه و ضعفه أمام ربه و أنه محتاجٌ إلى ربه و من كان بالله و صفاته أعلم و أعرف , كان توكله أصح و أقوى ,و من لم يكن كذلك فهو يظن أن حظوظاً عمياء هي التي تقرر مصير الحياة و الأحياء . إن المقطوعين عن الله هم عبد الحظوظ الشاردة و الأسباب المبتورة . إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطالون ,و إن من الجهل بالله و صفاته و ضعف الإيمان بوعده و وعيده أن يتوقع أحدٌ الخذلان و الضياع ,و هو مرتبطٌ بالرب العلى العظيم , معتمدٌ عليه لأن الله جل و علا يقول( أليس الله بكافٍ عبده و يخوفونك بالذين من دونه و من يضلل الله فما له من هاد و من يهد الله فماله من مضل أليس الله بعزيزٍ ذو انتقام ) .

فاتقوا الله أيها المسلمون و ثقوا بوعد ربكم و توكلوا عليه حق التوكل و اعملوا و اجتهدوا في الطلب و لا تفرطوا في السبب فإن الله يحب المتوكلين من عباده و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ثم صلوا و سلموا على خاتم النبين و إمام المرسلين و قدوة الله في العالمين فقد أمركم بذلك ربكم في كتابه المبين فقال عز من قائلٍ عليما ( إن الله و ملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما ) و قال عليه الصلاة و السلام ( من صلى على صلاة صلى الله عليها بها عشرا ) اللهم صلى و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد النبي الصادق الأمين , و على أهل بيته الطيبين و خلفائه الراشدين أبي بكرٍ و عمر و عثمان و على و سائر الصحابة و التابعين , و عنا معهم بعفوك و كرمك يا أرحم الراحمين , اللهم إنا نتوجه إليك و أنت في عليائك أن تعز الإسلام و تنصر المسلمين ,و أن تعلى بفضلك كلمة الحق والدين ,اللهم أعز الإسلام و المسلمين و أذل الشرك و المشركين و دمر أعداء الدين ,اللهم انصر الإسلام و المسلمين في العراق و انصر الإسلام و المسلمين في بلاد المعراج ,و انصر الإسلام و أهله في كل مكان , اللهم احقن دماء المسلمين , اللهم أمنهم في أوطانهم و احفظ عليهم دينهم و ديارهم , اللهم عليك بأعداء الملة و الدين من المعتدين على المسلمين من اليهود و النصارى الملحدين اللهم أضعف قوتهم و اقطع دابرهم و امحق آثارهم و عجل بزوالهم و لا تجعل لهم على بلاد المسلمين ولاية يا قوى ياعزيز . اللهم آ منا في أوطاننا و أصلح لنا ءأمتنا وولاة أمورنا , و اجعل ولايتنا فيمن خافك و اتقاك واتبع رضاك يارب العالمين , اللهم وفق إمامنا و ولي أمرنا لما تحب و ترضى و خذ بناصيته للبر و التقوى , ووفقه و إخوانه لهداك و اجعل عملهم في رضاك و هيئ لهم بطانة صالحة ناصحه تدلهم على الخير و تعينهم عليه و اجعلهم ممن قال الله فيهم ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و أتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهو عن المنكر و لله عاقبة الأمور, اللهم قوى إيماننا بك و بكتابك و بسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه و آله و سلم , اللهم انصر دينك و كتابك و سنة نبيك و عبادك المؤمنين ,اللهم انصر من نصر الدين و اخذل من خذل الدين . اللهم ألف بين قلوب المسلمين و اجمع كلمتهم على الحق و الدين , اللهم هب لنا قوة فقي إيماننا و افتح بصائرنا بنور الإسلام و اجعلنا من أنصاره و أعوانه و افتح قلوبنا لهدايته , واجعلنا هداةً مهتدين واقفين عند حدودك لا معتدين, متبعين لسنة نبيينا لا مبتدعين ,اللهم من أراد بلادنا بشرٍ و فتنةٍ و أراد ولاتها بمكيدة و مكر و أهلها بشرٍ و بلاء , اللهم اجعل كيده في نحره و اجعل تدبيره تدميراً عليه و عجل بفضحه و هتك سره بين العباد ,اللهم اقطع دابر الفساد و المفسدين و احفظ بلادنا و بلاد المسلمين . اللهم إنا نسألك سداداً في القول و صلاحاً في العمل و مغفرةً من الذنوب , و صلاحاً للقلوب يارب العالمين , ربنا آتنا في الدنيا حسنه و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار , و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون.


شارك المحتوى: