الافتيات على ولي الأمر

د. عبدالعزيز بن محمد السعيد

الافتيات على ولي الأمر

الجمعة 11 / 7/ 1433

د. عبدالعزيز السعيد

أما بعد فإن لشريعة الإسلام مقاصد عظيمة ، تجمع خيري الدنيا والآخرة ، ويسعد بها من فقهها وعمل بها ، وينجو ـ برحمة الله ـ من الفتن المهلكة ، والأهواء المضلة ، والسبل المردية ، والغرق في بحر المتناقضات ، ولجة الحيرة والاضطراب (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) .
ومن ذلك : المقاصد الشرعية في نصب إمام للناس يحكمهم ويجتمعون عليه ، وجماعها إقامة الدين والدنيا وضبط النظام العام ، ولو لم يسلم السلطان من الخطأ والخطيئة والتقصير ، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله (الاقتصاد ) : ( وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم ، وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء ، لو خلوا وراءهم ، ولم يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة ، وهو مقصود الأنبياء قطعاً ).

وتصرفات الإمام مقيدة بالمصلحة ، ولا طاعة له في معصية الله ، وإنما يطاع في المعروف لا في المنكر ، وعلى الرعية أن يطيعوه في مواضع الاجتهاد ؛ ذلك أن الإمام بنظره الشرعي المصلحي ينظر إلى خير الخيرين وشر الشرين ، والمصلحة والمفسدة ، ويقدر مآلات الأمور بمعطيات بين يديه ، لايطلع عليها آحاد الرعية ، بل ـ أحيانا ـ ربما لايصح إطلاعهم عليها حماية لبيضة المسلمين، كما أن ترك الآراء المتنافرة تسود بين الناس يورث التفرق والاختلاف ويذهب بمصلحة الجماعة ، والناس لايزعهم إلا السلطان ؛ ولذا كان اجتهاده مقدما على اجتهاد آحاد الناس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( جامع المسائل 5 / 273) : ( ودلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر … يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية ) . وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شأن الأمور الاجتهادية التي تخفى ويسوغ في مثلها الاجتهاد : ( ففي مثل هذا لا يجوز الافتيات على الأئمة ونوابهم ولا إظهار مخالفتهم ، ولو كانوا مفرطين في نفس الأمر ، فإن تفريطهم عليهم لا على من لم يفرط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة: “يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم » خرجه البخاري ). فعلم من هذا أن المنهج الشرعي يقضي بأن يقف الرعية حيث حدّ لهم ولي الأمر من الأنظمة وغيرها ، التي تراعي فيها المصلحة العامة ، وترتيب الأولويات ، وتقديم المهمات ؛ فإن الخروج على هذا ـ ولو بشيء قليل ـ قد يسبب فتنا تدوم ، و تسلط العدو ، وتجرئة السفهاء ، و هضم الحق ، و الذهاب بهيبة السلطان ، والإخلال بمصالح الأمة ، وربما تدرج بأهله إلى حل عقد البيعة ، وهدم بنيان الجماعة ، ، وقدكشف أهل العلم عن ذلك ، وقرروه أحسن تقرير ، قال الماوردي رحمه الله (الأحكام السلطانية ) : ( فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ افْتِيَاتٍ عَلَيْهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ لَهُ لِيَقُومَ بِمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَتَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ ) وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله : ( وليس لأحد أن يزيل المنكر بماهو أنكر منه ، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ، ويجلد شارب الخمر ، ويقيم الحدود ؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد … فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه ) .وقال العز بن عبدالسلام ـ رحمه الله ـ : (لايتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم ) ( قواعد الأحكام 1/82 ) وقال ـ أيضا ـ ( 1/ 58 ): (فمن المصالح والمفاسد ما يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ومنها ما ينفرد بمعرفته خاصة الخاصة، ولا يقف على الخفي من ذلك كله إلا من وفقه الله بنور يقذفه في قلبه، وهذا جار في مصالح الدارين ومفاسدهما، وفي مثله طال الخلاف والنزاع بين الناس في علوم الشرائع والطبائع، وتدبير المسالك والممالك، وغير ذلك من الولايات والنيات وجميع التصرفات، ولأجل الاختلاف في ذلك منع الشرع من نصب الخليفتين لما يقع بينهما من الاختلافات في المصالح والأصلح والمفاسد والأفسد، لأنه لو جوز نصبهما لتعطل تحصيل ما خفي من المصالح ، واجتناب ما خفي من المفاسد، وكذلك ترجيح الخفي ) . وقال شمس الدين أبوعبدالله بن الأزرق الغرناطي وهو يعدد ما يصدر من مخالفات لولي الأمر : ( المخالفة الثالثة : الافتيات عليه في التعرض لكل ما هو منوط به ، ومن أعظمه فسادا تغيير المنكر بالقدر الذي لا يليق إلا بالسلطان، لما في السمح به والتجاوز به إلى التغيير عليه… ومن السياسة تعجيل الأخذ على يد من يتشوق لذلك وتظهر منه مبادئ الاستظهار به، وإن كان لا ينجح له سعي، ولا يتم له غرض ) بدائع السلك في طبائع الملك (1 / 155)
والمعروف ـ عباد الله ـ عند أهل العلم قاطبة أن ماكان من الأمور متعلقا بالجماعة والشأن العام فهو إلى الإمام لا إلى آحاد الرعية ، كما هو مبثوث في كتب أهل العلم في الولايات والجهاد وعقد الذمة وإحياء الموات وضرب الدراهم والدنانير والحدود والقصاص والتعزيرات ، وإثبات الأهلة للصيام والحج والأعياد وإقامة الجمع والأعياد إلى غيرها ، والله تعالى هو الذي يتولى أمرهم ، فإن أحسنوا فلأنفسهم ، وإن أساؤوا فعليها ، ونحن مسؤولون عما أمرنا نحوهم من الطاعة والنصيحة ، ولسنا مسؤولين عما يصدر منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حملوا ، وعليكم ما حملتم ) رواه مسلم . وهذا كله عائد إلى قول الله تعالى : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وقوله جل شأنه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )
الخطبة الثانية : نحن في هذه البلاد منّ الله علينا بنعم كثيرة وأعظمها نعمة السنة والإسلام ، ثم الاجتماع على إمام واحد ، له ولاية شرعية ، بموجبها وجبت طاعته طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، في غير معصية الله ؛ فظهرت شعائر الإسلام ، وساد الأمن والرخاء ، وانتفع المسلمون من خيرات هذه البلاد في مشارق ومغاربها ، ولكن يعكر على هذا ـ أحيانا ـ قيام طائفة بين فينة وأخرى بإنشاء لجان للحقوق، أولجمع التبرعات ، أوللفتوى ، خارج إطار الولاية الشرعية ، وبدون إذن ولي الأمر ، وهذا منكر من العمل كما سبق ذكره عن أهل العلم ، بقطع النظر عن المقاصد أحسنة أم سيئة فإن ذلك إلى علام الغيوب ، ولكن الحكم على ماظهر من العمل ، وسلامة النية لا تصحح العمل إذا لم يكن موافقا للشرع ، ولا توجب السكوت عن هذا المنكر والرد على قائله ومنعه ؛ حفاظا على هذا الاجتماع ، ونصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وفرط الغيرة حتى تهدر النصوص إثم وليس ببر ، وجراحات الأمة لن تندمل إلا بالاتباع ، وأطر النفس على ذلك ، والوقوف عند الأدلة ، وإن استحسن الرأي خلافها ، وقصد إحراج ولي الأمر وتشتيت أمره ولاسيما في مثل هذه الظروف المحيطة بفتنها وحروبها ، خيانة وليست بنصيحة ، وتفريح للأعداء من الرافضة والعلمانيين واليهود والنصارى والمجوس ، الذين يتربصون بهذه البلاد الدوائر ردّ الله كيدهم في نحورهم ، وكفى الله المؤمنين شرورهم .وأسوأ من ذلك أن تحمل تصرفات ولي الأمر على غير محاملها ، أو يشنع عليه فيما اجتهد فيه مما أوكل فيه الأمر إليه ؛ حتى قالوا : قد منع التبرع للمسلمين ، ووقف حائلا دون نصرتهم ، وهذا من الكذب المفضوح ، فالمواقف السابقة من سحب السفير والدبلوماسيين ، والأمر بالقنوت ، ومد جسر للإغاثة ، وفتح التبرع عن طريق القنوات الرسمية المصرح لها ، والجهود المبذولة في المحافل الدولية من قبل المسؤولين ، يكذب هذا كله ، ويشهد ببطلانه ، وإنما حظر جمع التبرعات أو إنشاء اللجان إلا عن طريق الأنظمة ؛ صيانة لأموال الرعية واحتياطا لها ، مِن يد مَنْ قد تسول له نفسه السطو عليها ، أو صرفها بمايؤذي البلاد داخليا أو خارجيا ، ولا سيما أن هناك تجربة سابقة ، وظروفا دولية صعبة للغاية وذلك مسؤول عنه ولي الأمر أمام الله تعالى ، فوجب عليه حينئذ أن يتخذ التدابير الواقية لحماية الأموال وكف الضرر عن البلاد ، وعلينا إعانته في ذلك والدعاء له بالتوفيق والسداد ونصحيته على الوجه المشروع ، وليس بانتهاك عرضه ، والشماتة به ، وإظهار مخالفته ، والاعتراض على أفعاله المنوطة به بموجب إمامته ؛ فإن ذلك مبدأ الفتنة ، وإطلالة الخروج عليه ، وتفريق الجماعة ، ونشر الفوضى ، واستلاب الحقوق ، وجر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه ، فالأمر ياعياد الله خطير جدا .
قال علماء الدعوة النجدية عن ولي الأمر ( فتحرم معصيته والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته وفي معاقدته ومعاهدته، لأنه نائب المسلمين والناظر في مصالحهم، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم، لأن بولايته يستقيم نظام الدين، وتتفق كلمة المسلمين …. ، وليس لآحاد الرعية الافتيات، أو الاعتراض عليه في ذلك، فإن مبنى هذه الأمور، على النظر في مصالح المسلمين العامة والخاصة، وهذا الاجتهاد والنظر، موكول إلى ولي الأمر، وعليه في ذلك تقوى الله، وبذل الجهد في النظر بما هو أصلح للإسلام والمسلمين، ومشاورة أهل الرأي والدين والنصح من المسلمين …. فإن قصر عن القيام ببعض الواجب، فليس لأحد من الرعية أن ينازعه الأمر من أجل ذلك، كما ثبتت بذلك الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بوجوب السمع والطاعة، والوفاء بالبيعة، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان ) وقالوا : ( فلا يجوز لأحد الافتيات عليه، ولا المضي في شيء من الأمور إلا بإذنه؛ ومن افتات عليه فقد سعى في شق عصا المسلمين، وفارق جماعتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله ) وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله عن تكوين لجنة للدفاع عن الحقوق الشرعية في هذه البلاد : ( من المعلوم أن تكوين اللجان على هذا الوجه لا يكون تحت حكومة شرعية إلا بإذن هذه الحكومة، أرأيت لو أن رجلاً وجد قريةً ليس فيها قاض، فقال: أنا أريد أن أكون قاضياً في هذا البلد؛ لأن البلد ليس فيها قاضٍ والناس محتاجون للحكم بينهم فسأكون قاضياً، هل يملك هذا؟ الجواب: لا. لا يملك أن ينصب نفسه قاضياً في هذا البلد تحت ظل حكومةٍ شرعية إلا بإذن هذه الحكومة الشرعية باتفاق العلماء واتفاق المسلمين … )وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله : ( لا يجوز لأحد من الرعية أن ينشيء لجانا أو مشاريع تتولى شيئا من أمور الأمة إلا بإذن ولي الأمر ؛ لأن هذا يعتبر خروجا عن طاعته وافتياتا عليه ، واعتداء على صلاحيته ، ويترتب على ذلك الفوضى ، وضياع المسؤولية )


شارك المحتوى: