وقفات مع يوم عاشوراء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

الحمدُ اللهِ الذي نصَرَ الحقَّ وأهلَهُ، وهَزَمَ الباطِلَ وحِزبَهُ، الحمدُ للهِ الذي أنْجَى نبيَّهُ موسى -عليهِ السلام- في يومٍ مشهودٍ، وأهلَكَ عدُوَّهُ فرعونَ في يومٍ موعودٍ، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ صامَ عاشوراءَ وتحرَّاهُ وفضَّلَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]،

أمَّا بعدُ:

فإننَا نعيشُ شهرَ اللهِ المحرمِ الذي هو أفضلُ شهورِ السنةِ صيامًا بعدَ رمضانَ، عن أبي هريرةَ -رضي الله عنهُ-: قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «أفضلُ الصيامِ، بعدَ رمضانَ، شهرِ اللهِ المحرمِ» أخرجَهُ مسلمٌ.

وقَدْ حدَثَ في العاشرِ مِن شهرِ محرَّمٍ حَدَثٌ عظيمٌ، مِن إظهارِ للحقِّ وإزهاقٍ للباطلِ، فهوَ اليومُ الذي أنجَى اللهُ فيهِ موسى -عليهِ السلام- وقومَهُ، وأهلَكَ اللهُ فيهِ فِرعونَ وقومَهُ، عَن ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- قالَ: قَدِمَ رسولُ اللهِ ﷺ المدينةَ فَوَجَدَ اليهودَ صِيامًا، يومَ عاشوراءَ، فقالَ لهُمْ رسولُ اللهِ ﷺ: «ما هذا اليومُ الذي تصومونَهُ؟» فقالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، أنْجَى اللهُ فيهِ موسى وقومَهُ، وغرَّقَ فرعونَ وقومَهُ، فصامَهُ موسى شُكرًا، فنحنُ نصومُهُ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «فنحنُ أحَقُّ وأولَى بموسى مِنكُمْ. فصامَهُ رسولُ اللهِ ﷺ، وأمَرَ بصيامِهِ» متفقٌ عليهِ واللَّفظُ لمسلمٍ.

وذكَرَ العلامةُ ابنُ رجبٍ -رحمهُ اللهُ- أنَّ صيامَ عاشوراءَ مَرَّ بأربعِ مراحِلَ:

المرحلةُ الأولى/ أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يصومُهُ بمكةَ معَ أهلِ الجاهليَّةِ ولا يأمُرُ بصيامِهِ قالَتْ عائشةُ: إنَّ قريشًا كانَتْ تصومُ عاشوراءَ في الجاهليةِ، ثُمَّ أمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ بصيامِهِ، حتى فُرِضَ رمضانُ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ» متفقٌ عليهِ.

المرحلةُ الثانيةُ / أنهُ ﷺ لمَّا جاءَ المدينةَ وَجَدَ اليهودَ يصومونَهُ وكانَ أولًا يُحِبُّ مُوافقَتَهُمْ فقالَ: «نحنُ أحَقُّ وأولَى بموسى مِنكم. فصامَهُ». متفقٌ عليهِ.

المرحلةُ الثالثةُ/ أنهُ لمَّا فُرِضَ رمضانُ نُسِخَ وُجوبُ صِيامِ عاشوراءَ وصارَ صيامُهُ مُستحبًّا لَا واجبًا، فتركَ أمرَ الصحابةِ بصيامِهِ، قالَتْ عائشةُ: فلمَّا افتُرِضَ رمضانُ، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ عاشوراءَ يومٌ مِنْ أيامِ اللهِ، فمَنْ شاءَ صامَهُ ومَنْ شاءَ تَرَكَهُ» متفقٌ عليهِ.

المرحلةُ الرابعةُ / أنهُ في آخرِ حياتِهِ ﷺ عَزَمَ على صيامِ التاسِعِ مَعَ العاشِرِ ليُخَالِفَ اليهودَ، قالَ عبدُ اللهِ ابنُ عباسٍ: قالَ النبيُّ ﷺ: «لئِنْ بقيتُ إلى قابِلٍ لأصُومَنَّ التاسِعَ» رواهُ مسلمٌ.

ومِمَّا يدُلُّ على عظيمِ منزلةِ صيامِ عاشوراءَ في الشريعةِ أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يتحرَّاهُ، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- أنهُ قالَ: «مَا رأيتُ النبيَّ ﷺ يتحرَّى صيامَ يومٍ فضَّلَهُ على غيرِهِ إلَّا يومَ عاشوراءَ» متفقٌ عليهِ.

وقَدْ جعلَتْ الشريعةُ لهُ فضلًا عظيمًا وهُوَ تكفيرُ ذنوبِ سنةٍ كاملةٍ، عن أبي قتادةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «وصيامُ يومِ عاشوراءَ، أحتسبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَهُ». أخرجهُ مسلمٌ.

وأكمَلُ صيامِهِ أنْ يُصَامَ العاشِرُ والتاسِعُ، لمِا تقدَّمَ مِن قولِهِ ﷺ: «لَئِن بقيتُ إلى قابِلٍ لأصُومَنَّ التاسِعَ»، ثم يليهِ في الفضلِ أنْ يصومَ يومٌ واحدٌ وهوَ يومُ عاشوراءَ.

أمَّا صيامُ اليومِ العاشِرِ ويومٍ قبلَهُ ويومٍ بعدَهُ، فَلَم يصِح فيهِ حديثٌ عن رسولِ اللهِ، وأيضًا لم يصِحْ عن رسولِ اللهِ ﷺ أنْ يُصامَ يومُ عاشوراءِ ويومٌ قبلَهُ أو يومٌ بعدَهُ.

وليُعلمْ أنهُ لا يُستحبُّ تقصُّدُ صيامِ ثلاثةِ أيامٍ لأجلِ عاشوراءَ إلَّا إذا شَكَّ في دخولِ شهرِ محرَّمٍ، فلَمْ يُضبَطْ دخولُهُ برؤيةٍ شرعيةٍ فيصومَ ثلاثةَ أيامٍ احتياطًا ليُدرِكَ اليومَ العاشِرَ والتاسِعَ يقينًا، ثبَتَ هذا عن ابنِ عباسٍ وهو قولُ ابنِ سيرينَ والشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ.

أسألُ اللهَ أن يوفِّقنا للعملِ بالطاعاتِ وللمسابقةِ في الخيراتِ.

أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسول اللهِ… أمَّا بعدُ:

ففي يومِ عاشوراءَ وقفاتٌ مهمةٌ:

الوقفةُ الأولى/ تواترَتْ الأحاديثُ وتكاثرَتْ في صيامِ يومِ عاشوراءَ كما ذكرَهُ ابنُ الجوزيِّ في كتابِهِ (بستانُ العارفينَ) وقَدْ رواهُ البخاريُّ وحدَهُ في صحيحِهِ عن ثمانيةِ مِن الصحابةِ، ومع هذا لا يُستبعَد أن تجِدَ جاهِلًا يستطيلُ على أحاديثِ عاشوراءَ بالتضعيفِ، وأن تجِدَ قلوبًا ضعيفةً تُصدِّقُ كلامَهُ، فما أسرعَ هلَكَةَ أُمَّةَ محمدٍ ﷺ كما قالَهُ ابنُ مسعودٍ.

الوقفةُ الثانيةُ/ الفرَحُ بظهورِ الحقِّ وانتصارِهِ، وألَّا يكونَ هَمُّ المسلمِ مصالِحَهُ الشخصيةَ فحَسْب، بَلْ يفرَحُ لِفَرَحِ المسلمينَ ويحزَنُ لحُزنِهِم، ويفرَحُ لانتصارِ الحقِّ وظهورِهِ، قالَ اللهُ في وصفِ الصحابةِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عن النعمانِ بنِ بشيرٍ -رضي اللهَ عنهُ- أنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهِم، وتراحُمِهِم، وتعاطُفِهِم مَثَلُ الجسَدِ إذا اشتَكَى منهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى» متفقٌ عليهِ.

الوقفةُ الثالثةُ/ أنَّ الشريعةَ تطلُبُ من المسلمِ التمايُزَ في شخصيَّتِهِ المسلمةِ بأن يُخالِفَ الكافرينَ مِن اليهودِ والنصارى وغيرهِم؛ لأنهم أعداءٌ للهِ ولدينِهِ لِذَا خالَفَ رسولُ اللهِ ﷺ اليهودَ بأن عَزَمَ أن يصومَ مَعَ العاشِرِ التاسِعَ.

أينَ هذا مِن حالِ المسلمينَ اليومَ وهم يتسابقُونَ على مشابَهَةِ الكافرينَ، بَلْ ويَعُدُّونَ هذا حضَارَةً وتقَدُّمًا، فأهانُوا أنفُسَهُم فأهانَهُمُ اللهُ وأضعفَهُم، ولو أعزُّوا أنفُسَهُم بدينِهِم لأعَزَّهُم اللهُ وقَوَّاهُم.

الوقفةُ الرابعةُ/ تأمَّلوا كيفَ أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ، وهمُ المشركونَ باللهِ والكافرونَ، كانوا يُعظِّمونَ هذا اليومَ ويصمونَهُ، ثم اليهودُ -وهُم اليهودُ- الذينَ يقولونَ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ﴾ كيفَ كانوا يُعظِّمونَ هذا اليومَ الذي أنجَى اللهُ فيهِ موسى وقومَهُ، ويصومونَهُ، فنحنُ أحقُّ منهم كما أخبرَ بذلكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فاجتهِدْ على صومِهِ وأن تُحرِّصَ زوجَكَ وولَدَكَ على صومِهِ، كانَ الصحابةُ كما روَى البخاريُّ عن الرُّبَيِّع بنتِ مُعوِّذٍ -رضي الله عنها- يصومونَهُ ويُصوِّمونَ صبيانَهُم ويُعطونَهم اللُّعَبَ حتَّى يلهَى أبناؤهم فيُتمِّونَ صيامَهُ.

الوقفةُ الخامسةُ/ ضَلَّ في يومِ عاشوراءَ طائفتانِ ما بينَ غُلُوٍّ وجفاءٍ:

الطائفةُ الغالِيةُ: الذينَ جعلوهُ يومَ فرحٍ وتوسيعٍ على العيالِ، كما فَعَلَ ذلِكَ الصوفيةُ، وبعضُ من أخطأَ من أهلِ السنة.

الطائفةُ الجافيةُ: الذينَ جعلوهُ يومَ حُزنٍ وضَربٍ على الصدورِ، فأسالوا الدماءَ وأضحَكُوا عليهِم العُقلاءَ، بَلْ وجعلوهُ يومَ شركٍ باللهِ بتعظيمِ آل البيتِ ورفعِهم لمنزلةِ اللهِ سبحانَهُ، وهؤلاءِ هُم الرافضةُ – عليهِمْ لعائِنُ اللهِ إلى يومِ الدِّينِ-.

والواجبُ أن نكونَ وسطًا على الصراطِ المستقيمِ، فلا نخُصُّهُ إلا بالصيامِ.

-إخوةَ الإيمانِ- لنَحرِصْ على صيامِ عاشوراءَ، ولنُشجِّعْ ونَحُثَّ الأقارِبَ والأبناءَ والأصدقاءَ والجيرانَ والمسلمينَ عمومًا على صيامِهِ لنَظفَرَ وإيَّاهُم بأجرِ تكفيرِ ذنوبِ سنةٍ كاملةٍ، فإنَّ الأعمارَ قصيرةٌ والآجالَ محدودةٌ والموتَ يهجُمُ بغتةً قالَ تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} وقالَ تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.

اللهُمَّ وفِّقنَا لفعلِ الخيراتِ والتسابُقِ على الطاعاتِ، اللهُمَّ يسِّر لَنَا صِيامَ يومِ عاشوراءَ وتقبَّلهُ مِنَّا يا رَبَّ العالمينَ، اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِن الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنها وَمَا بَطَنَ، وقُومُوا إلى صلاتِكُم يَرحمكُم اللهُ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

وقفات مع يوم عاشوراء - 1444


شارك المحتوى:
0