هل الترفيه سلعة تجارية بحتة أم حاجة اجتماعية


[ هل الترفيه سلعة تجارية بحتة أم حاجة اجتماعية ]

أو

[ الترفيه الذي نريد؟ ]

عندما نُنشئ أمورا في حياتنا نحن في حاجتها لكن يكون إنشاؤها في غير موضعه أو يكون في موضعه ولكن على غير وجهته الصحيحة فثق ثقة تامة أنّ حدوثه سيأتي بنتائج عكسية على الفرد والمجتمع وهذه سُنّة من سنن الله في المجتمعات البشرية و من أمثلة ذلك وهو موضوعنا في هذا المقال مُكوّن الترفيه في المجتمع؛ فلا شك أنّ الترفيه نشاط إجتماعي و مُكوّن من مُكوّناته بصفته نشاطا طبيعيا و أصيل في المجتمعات البشرية و الإنسان محتاج من وقت لآخر للتّرفيه عن نفسه و ذلك في مسيرة حياته اليومية أو الإسبوعية أو السنويه ولا أحد ينكر ذلك لكن الكلام هنا عن أمرين الأول ماهيّة الترفيه والثاني نوعيّة الترفيه.

ولتوضيح هدف المقال هنا أقول
إنّ الترفيه مثله مثل التعليم فكلاهما نشاط إجتماعي مهم جدا
فكما أنّ على الجهة المتولية شأن التعليم حتى لو أوكل إلى جهة خاصة ربحية أن تلتزم بثقافة الأمة وهويتها مع الإستفادة من علوم الأمم الأخرى واساليبهم بما لا يتعارض مع ثقافة الأمة و هويتها ويضادها فكذلك الترفيه فعلى الجهة المتولية له حتى لو أوكل إلى جهة خاصة ربحية فعليها الإلتزام فيه بهويّة الأمة وثقافتها و خصوصا دينها.

وهنا سؤال كاشف مهم محرّك للذهن هل معنى وماهيّة الترفيه أن ينبثق من الشهوة وإشباع الغرائز الفطرية أو أنّه ينبثق من الحاجة للفسحة من حالة الجِد! لقد قال صلى الله عليه وسلم في حق الجاريتين اللتين كانتا تضربان الدف في العيد {دعهم -يا عمر – ليعلموا أن في ديننا فسحة -وفي لفظ صحيح- دعهم لتعلم يهود أن في ديننا فسحة}
و الفسحة هذه هي حقيقة الترفيه وهي هنا في الحديث تعبّر عن وجه من وجوهها فالفسحة أو الترفيه في حقيقتها هي ممارسة نشاط إجتماعي فيه راحة لفترة قصيرة من تواصل حالة الجِد دون الدخول في حالة نقض ما بُني في حالة الجِد و إهدار المكتسبات، فالحضور والتشجيع مثلاً في المباريات أيّاً كان نوع المباراة الرياضية كالسباق أو غيره هو نوع من أنواع الترفيه لكن إذا وصل التشجيع إلى حد فقد أو ضياع المكتسبات التي تم الحصول عليها في حالة الجد سواء مكتسبات مادية أو معنوية صار عبثا في صورة ترفيه وليس ترفيهاً حقيقاً ينعكس إيجابا على التنمية كأن يقوم المشجعون بإتلاف الممتلكات العامة أو الخاصة أو يتلفظون بألفاظ محرمة شرعا أو يتقصدون الإختلاط بالنساء الخ. إذاً أي مكتسب سواء ثقافي او مادي أو بمعنى اشمل كون المكتسب مكتسبا حضاريا يضيع أو ينقص في حالة الترفيه فأعلم أنّ هذا الترفيه مضر بالأمة وليس ترفيها حقيقيا إنما هو إهدار لمكتسبات الأمة.

ففرق بين الترفيه و العبث الذي يهدر مكتسبات الأمة الحضارية،
ففي علم وعالم الأخلاق لابد أن يكون الترفيه في حيز المروءة في أقل أحواله ولا يكون في حيّز المروءة إلّا إذا إمتلك أمرين الأوّل أن لا يخرج عن ما يوجب كرامة الإنسان عموما والثاني أن لا يخرج عن ثقافة الأمة أو بعبارة أدق أن لا يناقض ثقافة الأمة و ما اكتسبته في ما مضى من رقي و تحضّر في التمسك بثقافتها أهم ما يمثل الهوية و يمثل أساسها هو الدين
إذا فماهيّة الترفيه هي ما يتوافق مع مفهوم الترويح والفسحة اي الراحة من حالة الجد وليس ما يتوافق مع مفهوم الشهوة و دواعيها لأن ممارسة الشهوة ودواعيها ليس فسحة إنما هو نشاط طبيعي للإنسان يجري في سياق ثقافة الفرد و محدداتها أي ان ممارسة الشهوة له نظامه و تشريعه وتنظيمه في الدين والعرف والنظام العام وهو الزواج،
فتحوير مفهوم الترفيه من الفسحة الحياتية الى الإثارة أو الإشباع الشهواني الغريزي ودواعيه انما هو صدام مع حضارة الأمة و ثقافتها وهذا يعود بالسلب على هوية الأمة والمجتمع ولا يعطي الترفيه حقه ولا يجعله يؤدي وظيفته الإجتماعية و أثرها الإيجابي على النفس والمجتمع .

و أما الأمر الثاني وهو نوعية الترفيه
فيتجه الأمر فيه إلى أنّ الترفيه نشاط بشري طبيعي فلابد أن تعتريه الحالات الإجتماعية الطبيعية التي تناسبه من التفرد أو الإجتماع لكنه لا يمكن أن يخرج من كونه ضرورة بشرية وفي نفس الوقت هو في طبيعته وأصله أمر إختياري أي أن الترفيه في الأساس قائم على إختيار نوع الترفيه بما لا يتضاد مع ثقافة الأمة إذا النشاط الترفيهي بحاجة لأن يهيئ له الجو المتوافق مع هويّة المجتمع ثم يترك الإختيار للمترفه لا أن يقام نشاطا ترفيهيا عامّا ثم ترغمه عليه ارغاما غير مباشر عندها إن أتى فإنه سيأتي بدافع الضرورة البشرية والهروب من حالة الجد وليس بدافع الإختيار والفسحة والخروج من حالة الجد و إن إستجاب المرة الأولى فلن تكون المرة الأخرى بنفس درجة الإستجابة وهنا الكارثة والفشل الذي يواجه مقيمي النشاطات الترفيهية من الشركات و المؤسسات المعنية بهذا فإن ما يحققونه ماهو الا مردود مادي ضئيل مقابل ما يخسرونه على المدى البعيد من الثقة بما يقدمونه سواء على مستوى الكيف أو الكم فيلجأون إلى حلول منها إستيراد أنشطة ترفيهية تحمل ثقافة مضادة لثقافة الأمة وهذا خطأ في مسار هذا النشاط الاجتماعي وانحراف عن هدفه الصحيح.

و أما إستيراد أنشطة ترفيهية من خارج المجتمع لا تُضاد أو تتعارض مع ثقافة الأمة و دينها فلا بأس على أن لا يكون ذلك طاغيا على النشاط الترفيهي فقد اجتمع الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم لمشاهدة رقص الحبشة بالحراب و وقفت عائشة خلفه صلى الله عليه وسلم تنظر إليهم من فوق كتفه الشريف داخل بيتها ولم تقف بجانبه مع أنها لو وقفت رضي الله عنها بجانبه فهي لا تزال في حالة حشمة لكن لمّا كان الترفيه هنا جماعيا وليس عائلي أو فردي لم تخرج رضي الله عنها ولكن لمّا صار الترفيه عائليا وتهيأ المكان للترفيه العائلي مارسته رضي الله عنها مع زوجها صلى الله عليه وسلم فسابقته رضي الله عنها مرتين فمرة سبقته صلى الله عليه وسلم و مرة سبقها. إن تحقيق الترفيه والإهتمام به في المجتمع أمر ضروري لكن لابد أن يكون انعكاسا لهويّة المجتمع وترجمة له وليس مضاد لهويّتها و لثقافتها .

إن أفضل أنواع الترفيه المناسبة للطبيعة البشرية و لثقافتنا نحن العرب هو الترفيه الإختياري سواء في وسط جماعي أو عائلي أو فردي وأضرب له مثالا لا حصرا كأن تُهيأ أماكن للتنزه في شاطئ ما تعكس هذه التهيئة البعد الثقافي للمجتمع ومنها تهيئة أماكن للعوائل كما هو في مجتمعنا السعودي وتهيئة اماكن للعزاب وتزويد المكان بألعاب تناسب مايملكه هذا المكان من خواص طبيعية كالألعاب المائية في الشواطئ والتي تمارس بشكل فردي أو جماعي في سياق ثقافة المجتمع ويختار المترفه ما يريد من ألعاب، أو تهيئة مكان في بريّة ما مثلاً وتزودها بإمكانيات المكوث فيها و استغلال بعض الحالات البيئية فيها مثل المرتفعات لممارسة نشاط الطيران أو القفز المظلي أوحالة الربيع لممارسة الصيد …الخ ثم تترك للمترفه الحرية في ممارسة الخيارت على ما تمليه عليه ثقافته وحاجته الفطرية و ذوقه للفسحة و الترفه و ما يناسب ظرفه الإجتماعي كأن يكون لوحده أو مع عائلته أو مع رفقة له و التي لن تتعارض أبدا مع المرؤة مادامت في سياق ثقافة المجتمع، إن ممارسة الترفيه على شكل نشاط إختياري بما لا يتعارض مع ثقافة الأمة هو الترفيه المنشود وهو الذي سيعود على التنمية بالأمور الإيجابية سواء مادية أو معنوية لتُهيأ النفوس مرة أخرى بعد هذه الفسحة لممارس حالة الجد للنهوض بالأمة، ولا شك أنّ الترفيه يصب لصالح حالة الجِد(التنمية)ولو بشكل غير مباشر ، ومن أفضل حالات الترفيه و أرقاها تجييره لصالح حالة الجد بشكل مباشر كتعليم الأولاد الرماية أو السباحة أو ركوب الخيل و مع مافيها من ترفيه إلا أنّها تُربي في النفس معاني أخلاقية إيجابية كثيرة تصب في صالح حالة الجِد (التنمية) ، فعن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه ، قال : خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق . فقال : ” ارموا بني إسماعيل ! فإن أباكم كان راميا ، وأنا مع بني فلان ” لأحد الفريقين . فأمسكوا بأيديهم ، فقال : ما لكم ؟ قالوا : وكيف نرمي وأنت مع بني فلان ؟ قال : ارموا وأنا معكم كلكم .

كذلك وكما ذكرت في سابقاً مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم الترفيه العائلي فسابق عائشة رضي الله عنها في مكان قد تهيئ لذلك أي بما يتوافق مع دين الاسلام والأخلاق الكريمة فسبقته رضي الله عنها و كرر ذلك بعد فترة من الزمن فسبقها وقال صلى الله عليه وسلم لها هذه بتلك.

إنّ إخراج الترفيه من كونه نشاطا إجتماعيا مقصودا لغيره أي لتقوية جانب الجديّة في المجتمع إلى كونه سلعة و هدفا تجاريا بحت يضعف حالة الجدية في الأمة ويجعل رؤوس الأموال الضخمة تتجه إلى التنافس في مجال الترفيه و المبالغة فيه مما يتسبب في الإضرار بهويّة الأمة والقفز على ثقافتها و ينشغل أكثر شباب الأمّة في أمور الترفيه و يصير هو هدفا تجاريا للشركات و المؤسسات المستثمرة في مجال الترفيه وهذا أمر يضرّ بالبنية التحتية للمجتمع والدولة على المدى المتوسط و البعيد هذا بالإضافة الى ترك إستثمارات هي أهم بكثير من الإستثمارات الترفيهية كالإستثمارات التي تعود على الأمة بالتقدم والإزدهار في مجال البحوث العلمية والتجريبية .

فجعل الترفيه في سياق هويّة الأمة وتحويله إلى ثقافة هو المطلوب وليس المطلوب ان تجعل الترفيه سلعة استثمارية بحته مما يتسبب في بتعدي الممارسين له على هوية المجتمع و ثوابت الأمة لأنّ ذلك سيعود بالسّلب على المجتمع وستنجم صراعات ثقافية تبطئ من عجلة التنمية وسيكون منفذا للحزبيين للدخول عبر نشاط الترفيه الإجتماعي لزرع أفكارهم و اقتناص ضحياهم من أفراد المجتمع فيكون الترفيه في هذه الحالة مجالاً خصب لهم .

فلا بد من وضع أنظمة للحد من القفز على الهوية الإجتماعية وثقافة الأمة وخصوصا دينها من قبل الممارسين للترفيه سواء المترفهين أو من سمحت لهم الدولة بإقامة نشاطات ترفيهية كالشركات والمؤسسات الخاصّة.

نخلص فيما سبق إلى أن الترفيه ليس شيئا شاذا عن المجتمع بل هو نشاط إجتماعي طبيعي ضروري لكن لا يكون طبيعيا إلا إذا كان إنعكاسا لهويّة المجتمع وفي سياق ثقافته وفي أبعد أحواله أن لا يضاد ثقافة المجتمع ونخلص كذلك الى حقيقة وهي ان الترفيه مثله مثل التعليم يجب على الجهة المتولية له حتى لو كانت ربحية ان تلتزم فيه بثقافة الأمة وحضارتها و تحافظ على مكتسباتها.أ.هـ

كتبه اخوكم
عبدالله بن محمد الشبانات
في يوم الأثنين الموافق

28/4/1439هـ


شارك المحتوى: